عاجل

بين التناص والانتهاك: أزمة “الأولاد الطيبون” وانعكاساتها على مفاهيم المسرح المعاصر

بقلم/ احمد محمد علي
بين التناص والانتهاك: أزمة

في خضم اشتعال الفضاء الرقمي بالمهرجان القومي للمسرح المصري حظي المسرح السكندري بنقاشات حادة بين مبدعين وجمهور حول عرض “الأولاد الطيبون” للمخرج محمد أيمن – الحائز على عدة جوائز من مهرجان قسم المسرح الدولي والمهرجان العالمي بأكاديمية الفنون وممثلا للأكاديمية بالمهرجان القومي– برزت إشكالية قديمة متجددة!
إلى أي مدى يمكن للفنان المسرحي أن يتكئ على إرث بصري أو درامي سابق دون أن يقع في فخ “السطو الإبداعي”؟ وهل التناص – بوصفه أداة جمالية وفكرية – يمكن أن يساء استخدامه في غياب الدراماتورجيا الواعية ليصبح انتهاكا بدلًا من حوار فني مشروع؟
هذه الإشكالية لم تُطرح في قاعة نقاش أكاديمي بل تفجّرت على صفحات “فيسبوك”، عندما نشر المخرج أشرف علي تدوينة تضم صورا من عرضين سابقين له، “مارا/ساد” و”كاسبر”، مدعيا أن المخرج الشاب محمد أيمن قد اقتبس منها صورا وتكوينات بصرية في عرضه “الأولاد الطيبون”، دون الإشارة إلى مصدرها، متهما إياه – ضمنا – بانتهاك للملكية الإبداعية. اشتعلت التعليقات، وتبادل المدافعون عن أيمن الهجوم مع مؤيدي أشرف، في معركة تفضح هشاشة فهم بعض المسرحيين الأكاديميين والمهتمين للفروقات الدقيقة بين التناص الواعي والانتحال غير المشروع، وبين التأليف الأصلي والإعداد الدرامي، وبين الدراماتورجيا المتبصرة والمسرحة الشكلانية.

وفي ظل هذا الصراع الرقمي، تدخل الدكتور أشرف زكي، نقيب الممثلين، داعيا إلى التهدئة ووقف “حرب البوستات”، لكن الأسئلة الجوهرية التي كشفتها هذه المعركة الثقافية لم تتوقف.
وقد بدا جليا أن ما اعتبره أشرف علي “تشابها بصريا” قد يكون في كثير من الأحوال إما توظيفا لرموز مسرحية كلاسيكية، كما في التكوين الذي يشبه لوحة مايكل أنجلو “خلق آدم”، أو محاكاة مقصودة لنمط التشويه في الأداء والسينوغرافيا المستلهمة من “مسرح القسوة” عند أنطونان آرتو. وهذا النوع من الاقتباس – إن صح التعبير – لا يمكن أن يُجرم فنيا أو يُعتبر انتحالا، بقدر ما يُقرأ في ضوء التناص.

بين التناص والانتهاك قراءة في المفاهيم

إذا ما تتبعنا نشأة التناص وبداياته الأولى كمصطلح نقدي نجد أنه كان يرد في بداية الأمر ضمن الحديث عن الدراسات (اللسانية) وقد وضح مفهوم التناص العالم الروسي (ميخائيل باختين) من خلال كتابه (فلسفة اللغة) وعرف باختين التناص بأنه (الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاكاتها لنصوص أو لأجزاء من نصوص سابقة)، وقد أفاد منه بعد ذلك العديد من الباحثين، حتى استوى مفهوم التناص بشكل تام على يد تلميذة باختيين الباحثة (جوليا كرستيفا) في دراستها (ثورة اللغة الشعرية) وعرفت فيها التناص بأنه (التفاعل النصي في نص بعينه) كما ترى جوليا أن (كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات، وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى) .
في ضوء ذلك يمكن النظر إلى عرض “الأولاد الطيبون” كإعادة صياغة سردية وبصرية لنص توم ستوبارد، من خلال التشويه ودهشة الصورة المسرحية الخشنة التي تقاوم التنميط وتفضح التوحش الكامن في أيديولوجيا القمع.
حتى لو تقاطعت بعض الصور البصرية أو التكوينات مع عروض سابقة فإن توظيفها في سياق درامي وفكري مختلف يجعل من السذاجة اتهامها بالسطو أو الانتحال!
في المقابل، يجب الاعتراف بأن الحدود بين التناص والانتهاك تبقى هشة خاصة في العروض التي تعتمد على المسرحة البصرية أكثر من الكلمة المنطوقة، حيث تصبح الصورة المسرحية مجالا واسعا لتأويل التشابه أو الاختلاف. غير أن الحكم يجب أن يصدر من منطق التكوين الكلي للعرض، لا من اجتزاء صورة هنا أو لقطة هناك.

من الاستلهام إلى الإتهام. ذاكرة المسرح في مرآة السوشيال ميديا.

ما يدعو إلى التأمل – وربما القلق – في هذه الأزمة، أن ساحة النقاش لم تكن مجلة أكاديمية أو ندوة نقدية، بل صفحات “فيسبوك”، بما تحمله من انفعالات آنية وتضخم ذاتي في التعبير والمواجهة. لقد تحول الخلاف المهني إلى معركة شخصية تتغذى على الصور المجتزأة والتعليقات الغاضبة، ما أفقد النقاش عمقه المطلوب حول قضايا مثل الحقوق الأدبية، والاستلهام الفني، وحدود الدراماتورجيا في الإعداد المسرحي.
ومما زاد الطين بلة، أن المدافعين عن عرض “الأولاد الطيبون” ردوا على اتهامات أشرف علي باتهامات مضادة، مؤكدين أن أعماله السابقة، بدورها، مليئة بتناصات واضحة مع أفلام ومسرحيات عالمية ومحلية، بل وذهب بعضهم إلى تقديم أدلة مصورة على ذلك. وهكذا انتقل الصراع من كونه نقاشا حول الإبداع إلى “حرب فنية”، يغيب عنها المنهج ويحضر فيها الجدل الاستعراضي.
وسط هذه الضوضاء، يُصبح من الضروري أن نستعيد وظيفة النقد المسرحي الحقيقي لا كوسيط بين العرض والجمهور فحسب، بل كعين فاحصة تميز بين الإبداع القائم على التأمل والاشتغال الجمالي والانتحال القائم على النقل الفج والتكرار الأجوف. فالخطاب المسرحي هو الذي يتجاوز النص إلى الفعل. والمسرح فعل جماعي يُقاس في مجمله، لا في اجتزائه هكذا تعلمنا!
وفي ضوء هذه الرؤية، يظهر عرض “الأولاد الطيبون” كمحاولة ناضجة من مخرج شاب لتفكيك بنية القهر السياسي من خلال استعارات بصرية وأدائية قد تكون مألوفة لكنها موظفة ضمن سياق جديد. كما أن ما تعرض له من نقد – مبرر أو مبالغ فيه – يطرح سؤالا أكبر حول افتقارنا لمرجعية واضحة في قضايا التأليف والإعداد والاقتباس، في ظل غياب تنفيذ تشريعات واضحة للملكية الفكرية في الفضاء المسرحي.

جدلية الخصوصية والمرجعية

من حق أي مبدع أن يطالب بالاعتراف بجهده، ولكن من حق المتلقي أيضا أن يستفسر عن أصول العمل، وشرعية استخدامه لمرجعيات بصرية أو فكرية. لكن بين هذين الحقين، يجب أن نقف عند مفترق أخلاقي وفكري هل كل تشابه هو سرقة؟ وهل كل استعارة هي انتهاك؟ أم أن الإبداع – بطبيعته – هو فعل تناص دائم، لا يتحقق إلا من خلال حوار خلاق مع التراث، والمعاصر، والآخر؟

إن أزمة “الأولاد الطيبون” تفضح غياب هذا الحوار، وتدفعنا إلى المطالبة بإعادة تأسيس خطاب نقدي يميز بين الانتحال والتأثير، بين الإعداد والتأليف، بين المسرحة والدراماتورجيا، دون الوقوع في مطب الشخصنة والانفعال. فالمسرح، كما كان دوما، هو مرآة لوعينا الجمالي والأخلاقي، قبل أن يكون ساحة صراع على الجوائز أو الاعتراف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى