“حواديت”.. مقاومة الألم بالضحك والحكاية

بقلم/ احمد محمد علي
في لحظة مشبعة بالفقد، رحل شقيق المخرج خالد جلال قبيل فتح الستارة مباشرة، ومع ذلك أصر على مواجهة الحزن وإتمام العرض في موعده. امتلأت قاعة مسرح سيد درويش بالإسكندرية بالجمهور، ليصبح «حواديت» في تلك اللحظة أكثر من مجرد عرض مسرحي؛ بل شهادة حية على أن المسرح، في جوهره، فعل مقاومة في مواجهة الموت، وصرخة إنسانية في وجه العزلة والقهر. من هنا اكتسب العمل بعده الإنساني الفريد، إذ بدا وكأنه مواجهة مباشرة بين الإرادة واليأس، بين الفقد والحياة.
«حواديت» مشروع تخرج لدفعة جديدة من مركز الإبداع الفني، دفعة الراحل على فايز. والذي جاء كبيان مسرحي مكتمل يبرهن أن الحكاية قادرة على ترميم الوجع، وأن الضحك يمكن أن يجاور الدمع من دون أن يلغيه، وأن المسرح، مهما ضاقت به الظروف، يظل فضاء للبوح والمقاومة.
بنية العرض وتعدد الحكايات
اعتمد العمل على سلسلة من الحكايات المتفرقة شكلا والمتشابكة دلاليا. من قرية “شطورة” في صعيد مصر تبدأ الرحلة مع “بحر” العاشق للناي و”نعمة” الأسيرة للتقاليد، لتتوالى الحواديت كمرآة لظواهر المجتمع: مغالاة المهور، استبداد العادات، الحب المقموع، التنمر، التحرش، الانتحار، جائحة كورونا وما فرضته من عزلة خانقة.
كل حدوتة بدت كنافذة صغيرة، لكنها مجتمعة صنعت لوحة واسعة تكشف صورة مجتمع مأزوم، ومع ذلك يسعى للحياة والضحك. وهنا يتبدى وعي خالد جلال بجدلية المسرح كمرآة للواقع، لا تعكسه وحسب، بل تفككه وتعيد صياغته.
جدلية التراجيديا والكوميديا
أحد أهم أسرار نجاح «حواديت» هو تنقله البديع بين التراجيديا والكوميديا. ففي لحظة يسود الصمت أمام عروسين يواجهان السرطان بضحكة باهتة، وفي لحظة أخرى ينفجر الضحك من طرافة شخصية “شكري الطيار” وهو يلهث وراء البيتزا. هذه الجدلية ليست عبثا، بل استراتيجية فنية تعكس حقيقة الحياة نفسها، حيث يتجاور الألم والبهجة دون فواصل صارمة. بهذا الإيقاع المتنوع، حافظ العرض على انتباه المتلقي لأكثر من ساعتين، مضاعفا أثر التجربة.
الأداء التمثيلي.. البطولة للجماعة
الممثل هو قلب مشروع الجواهرجي خالد جلال، وهنا برزت قوة الجماعة المسرحية بوصفها نجومية جماعية لا فردية.
نادين خالد حضرت بكاريزما آسرة، وأتقنت تفاصيل الأم العجوز بحرفية.
ياسمين عمر تألقت بتنوع أدواتها وحضورها الطاغي الذي منح الشخصية صدقا استثنائيا.
شهاب العشري قدم صدقا لافتا في شخصية السائق، بينما صاغ عمر حمدي مشهد محاولة الانتحار بخمس دقائق من التوتر المكثف.
أحمد شرف أطرب الجمهور بصوته العذب، وصلاح الدالي أضحك بصدق بعيد عن التصنع.
أحمد شاهين أضاف خفة ظل محسوبة، وإسراء حامد جسدت لحظة إنسانية عميقة في دور العروس المريضة، بينما قدمت شيري أشرف صورة دقيقة للاستلاب الجسدي في مشهد «عروسة الماريونت».
يوسف مصطفى جسد القمع بجدية زادت من وقع المشهد، إلى جانب إبداع وحضور نفين رفعت، وبقية فريق العمل.
هكذا تشكلت لوحة جماعية متجانسة، حيث يضيء كل عنصر بجوار الآخر دون أن يطغى عليه، وهو ما يحسب لرؤية جلال الذي لا ينضب.
الاقتصاد الجمالي في السينوغرافيا
اعتمد العرض بساطة واعية في عناصره البصرية ديكور محدود، إضاءة موحية، موسيقى ممتزجة بالحكايات وممهدة لها عبر فواصل لأم كلثوم. الرقصات لم تقدم كاستعراض منفصل بل خرجت من قلب المشاهد، مؤكدة أن المسرح يرتكز على صدق الأداء.
أول ما لفت انتباهي هو تنوع الأزياء وتفاصيلها التي تجعل الشخصية مصدقة قبل أن تتكلم. كل ذلك صاغ عالما بصريا متناغما مع الجوهر الدرامي.
الرمزية العميقة والبعد الإنساني
الحكايات الصغيرة بدت استعارات عن جروح كبرى.
الحب المستحيل، كشف استبداد البنى الاجتماعية، ومشهد «عروسة الماريونت» فضح الاغتراب الجسدي والنفسي، فيما حكايات كورونا أعادت اكتشاف معنى القرب الإنساني. بهذا قدم «حواديت» خطاباً رمزياً عميقاً يعلن أن الإنسان، مهما حاصرته قوى الموت، قادر على أن يجد في الفن فسحة للحياة.
يتجاوز «حواديت» حدود كونه مشروع تخرج ليغدو بيانا مسرحيا وإنسانيا إجتماعيا يرسخ أن المسرح بيت الناس وفضاؤهم المفتوح لمواجهة الذات والواقع. لقد أثبت خالد جلال وطلابه أن الصدق الفني هو العنصر الأهم، وأن المسرح حين يخرج من معاناة حقيقية يتحول إلى حياة موازية، تعلمنا كيف نقاوم ونحلم ونحب.
بين التناص والانتهاك: أزمة “الأولاد الطيبون” وانعكاساتها على مفاهيم المسرح المعاصر