عاجل

تأملات في العيد 

بقلم ✍️ رانيا عاطف

( باحثة دكتوره ـ كلية الآداب جامعة المنيا)

في ظل تسارع الحياة اليومية وتحوّل الأعياد إلى مواسم تسوّق واحتفالات نمطية، قد نغفل حقيقة أن العيد ليس مجرّد مناسبة عابرة، بل لحظة زمنية استثنائية تحمل أبعادا رمزية ووجودية عميقة، تستحق أن نتوقف عندها.

فمن منظور فلسفي، يمكن النظر إلى الأعياد على أنها لحظات فارقة تتجاوز روتينية الزمن اليومي لتمنح الإنسان فرصة تأمل وعودة إلى الذات، ففي العيد، يتوقّف الزمن اليومي المعتاد، ذلك الزمن الخطي الذي يقيس أعمارنا بمقاييس الإنتاج والمهمات والإنجازات. ويحلّ محله زمن مختلف، دائري الطابع، يعيد الإنسان إلى نقطة البدء، إلى لحظة تأمل تحمل في طيّاتها معاني الفداء، التسامح، التكافل، والتضحية.

وليست هذه العودة مجرّد حنين عاطفي إلى الماضي، بل هي فعل وجودي يعيد صياغة علاقة الإنسان بالكون، ويمنحه فرصة لإعادة التواصل مع ذاته، ومع مجتمعه، أي عودة تتجاوز اليومي العابر نحو الأعمق والأسمى.

إذ لا يمر العيد كغيره من الأيام. بل هو انقطاع عن “الزمن العادي”، زمن العمل والمشاغل والقلق، ليمنحنا فسحة نادرة من “الزمن المتعالي”، ومن ثم يصبح العيد فترة استثنائية يتوقف فيها الزمن ليفسح المجال للفكر.

العيد، بهذا المعنى، ليس مجرد تكرار سنوي، بل هو تجدد وجودي. كل عيد يحمل فرصة لا لإعادة ما كان، بل لاكتشاف الذات والعالم بطريقة أكثر صفاءً وعمقا.

وراء كل عيد تتوارى رموز كبرى تعبّر عن معانٍ إنسانية سامية. فعيد الأضحى، مثلا، لا يُختزل في مشهد الذبح، بل يحمل في عمقه دلالة على الفداء والتضحية، وعلى قدرة الإنسان على تجاوز أنانيته، واختياره الاستجابة لنداء الإرادة الإلهية فوق رغباته الذاتية.

ومن ثم تكون المشاركة في العيد ليست مجرد أداء جماعي فحسب، بل هى فعل وجودي، حيث يفهم الإنسان نفسه من خلال ما يقوم به من أفعال، ويمنح الزمن معنًى يتجاوز لحظاته العابرة.

لكن، في عالم اليوم، يواجه العيد أزمة رمزية. تحت وطأة الاستهلاك وثقافة السوق، إذ تحوّلت الأعياد في كثير من الأحيان إلى طقوس شكلية فاقدة للجوهر، إذ نشتري الهدايا، ونلتقط الصور، لكننا ربما لا نتوقّف لنتأمل: ما الذي نحتفل به؟ ولماذا؟.

لقد باتت بعض الأعياد تُختزل في مظاهر مادية لا تلامس العمق، وتراجعت رموزها الكبرى أمام سطوة التسارع الزمني والتطور التكنولوجي.

ورغم كل ذلك، لا يزال بالإمكان استعادة المعنى، فالعيد يمكن أن يكون أكثر من لحظة راحة أو مناسبة اجتماعية، يمكن أن يكون فترة تصالح مع الذات، ومع الآخر، ومع الزمن ذاته، وهو فرصة لتجديد العلاقة بالقيم: الرحمة، التسامح، التكافل، والانتماء إلى ما هو أكبر من الذات الفردية.

ومن ثم تتيح الأعياد للأفراد والمجتمعات أن يُمارسوا القيم لا أن يكتفوا بالحديث عنها، ففي العيد، تُترجم الرحمة إلى عطاء، ويصبح التسامح ممارسة واقعية، ويتحوّل الكرم إلى فعل جماعي. إنها لحظات نادرة ينخفض فيها صوت المصلحة، ويرتفع صوت المشاركة والتكافل.

وهنا يكمن السر: فالقيم لا تُلقّن نظريًا بقدر ما تُجسّد في الأفعال. والعيد، بما له من معانٍ رمزية واجتماعية، يُشكل بيئة خصبة لغرس هذه القيم، خاصة في أذهان الأجيال الجديدة.

العيد، في جوهره، ليس مجرد “يوم عطلة”، بل مناسبة نوعية تكشف عن معاني خفية من الزمن، وتدعونا إلى تأمل أعمق في وجودنا الإنساني.

في هذا السياق، يصبح من الضروري أن نعيد التفكير في كيفية قضاء الأعياد: هل ما نمارسه يُعزز القيم التي نؤمن بها؟ أم أننا نستهلك الطقوس ونفقد المعاني؟.

إن الإنصات الفلسفي للتأمل في العيد لا يعني إلغاء الفرح أو نبذ المظاهر المألوفة، بل يعني استعادة التوازن بين الشكل والمضمون، بين الزمن والمعنى. فحين يُعاش العيد كحدث وجودي، يمكن أن يتحوّل إلى أفق أعمق لإعادة بناء الذات والمجتمع معا.

فالعيد يمكن أن يكون فترة تربية، لا تلقينا، فترة اجتماع، لا تباعد. فترة تجدد، لا تكرار. ولأن قيم العيد لا تفرض نفسها، بل تنبع من الداخل، فالمسؤولية تقع على عاتق كل فرد، وكل أسرة، في تحويل الأعياد إلى مناسبات حقيقية لنشر المحبة، والتسامح، والتضامن.

إن أجمل ما في الأعياد أنها تُذكّرنا بما نكاد ننساه في زحام الحياة: أننا بشر، وأن ما يجمعنا أعمق من المصالح، وأن في أعماقنا شوقًا دائمًا إلى المعنى. فلنغتنم العيد لا كمناسبة فحسب، بل كفرصة: لنشر القيم، لا الصور فقط؛ ولنفتح القلوب، لا البيوت وحدها.

ظهرت المقالة تأملات في العيد  أولاً على جريدة المساء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى