عندما تغيب الهوية وتموت الثقافة

بقلم ✍️ مدحت الشيخ
(كاتب في الشؤون السياسية والاجتماعية)
تصبح الأوطان مجرد جغرافيا، والمجتمعات قطع غيار قابلة للاستبدال، والناس نسخًا متكررة من بعضهم البعض، لا يجمعهم ماضٍ مشترك ولا يحلمون بمستقبل واحد. عندما تغيب الهوية، لا تعود اللغة تعني شيئًا سوى وسيلة لطلب الطعام، ولا يبقى للعلم قيمة سوى أنه وسيلة للهجرة، ولا يكون للانتماء سوى طعم المصلحة.
حين تموت الثقافة، تُطفأ آخر شموع الوعي، ويتحوّل المثقف إلى موظف علاقات عامة، ويتحول الكاتب إلى منشئ محتوى، ويتحوّل المسرح إلى مول تجاري، وتصبح الكتب ديكورًا على رفوف المقاهي. تصبح القيم سلعة، وتتحول المبادئ إلى مواد قابلة لإعادة التدوير حسب السوق والمعلن.
غياب الهوية لا يحدث فجأة، بل يأتي على مراحل: يبدأ بالتشكيك في التاريخ، ثم بتشويه الرموز، ثم بتفكيك اللغة، وانتهاءً بالاستهزاء من كل من يحاول التمسك بجذوره. أما موت الثقافة، فهو مرض بطيء لا يشعر به الناس حتى يصبحوا غرباء في بيوتهم، لا يقرأون، لا يسمعون إلا الصخب، ولا يشاهدون إلا التكرار.
لكن رغم كل هذا السواد، تبقى شعوبٌ تعرف من أين جاءت، وتقاوم كي لا تضيع. ونحن كمصريين، لم نكن يومًا بلا هوية. هويتنا ضاربة في أعماق التاريخ، محفورة على جدران المعابد، منقوشة في ملامح وجوهنا، وممتزجة في لهجتنا التي حملت عبر العصور ظلالًا من الفرعونية، والقبطية، والعربية.
ثقافتنا لم تكن يومًا مجرد ترف، بل كانت سلاحًا، ودرعًا، ومصدر فخر. نقرأ طه حسين ونسمع أم كلثوم، ونضحك مع نجيب الريحاني ونتأمل مع صلاح جاهين. هذه ليست مجرد أسماء، بل أعمدة قامت عليها ذاكرتنا الجمعية.
نحن أبناء حضارة حين تتوه الهويات حولها، تُشير إليها الأمم وتقول: “هنا بدأت القصة”.
والأخطر من كل ذلك، أن يتحول هذا الغياب إلى حالة اعتيادية، فنمضي في الحياة دون أن نسأل: من نحن؟ ومن نكون؟ ولماذا فقدنا كل ذلك؟
وللأسف، حينها لا يعود السؤال الأهم: “كيف نعود؟”، بل يصبح: “هل ما زال هناك ما نعود إليه؟”