د. نهال أحمد يوسف تكتب: ديموقراطيات زائفة

تتصدّرُ الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، المشهدَ العالميّ بخطاب مُنمّق عن “الديمقراطية” كجوهر للحكمِ الرشيدِ ورمز للحرية المطلقة. إنها تُلوّح بهذا المفهوم كصكّ عالميّ لا تُعلو عليه قيمة، وتُقدّمُه نموذجاً لا غنى عنه لكلّ مجتمع يسعى للتقدم والازدهار. لكنَّ هذا الخطاب، على فصاحتِه وبلاغتِه، ما هو إلاّ قناعٌ يُخفي وراءَه واقعاً مُغايراً تماماً، حيثُ تُصبحُ الديمقراطيةُ مجردَ إطار ضيّق وشعارات تُردّدُها الأبواق الرسمية، تُقنن فيها حرية الأفرادِ وتُسَيطر على مسارات وعيهم وحياتهم. فالحقيقةُ التي تُغفلُها هذه السردية، أن “الديمقراطيةَ” في كثير من الأحيانِ تُستغلّ كأداة لتحقيق أهداف الدول القوية، سواءٌ على صعيد السيطرة الداخلية على مواطنيها، أو التدخل السافر في شؤون الدول الأخرى.
فلننظرْ إلى تجليّات هذه الديمقراطية “الزائفة” داخل معاقلِها المُفترضةِ. فالمواطنُ الغربي، الذي يُفترض أن يتمتعَ بحرية لا تضاهيها حرية، يجدُ نفسَه مُحاطاً بحدود ذهنية ومعيشية صلبة. فمنذُ لحظة ولادتِه، يتلقّى هذا المواطنُ تعليماً يُشكّلُ وعيَه ويهندسُ أفكارَه بما يتوافقُ مع الرواية الرسمية والمنظومة القيمية السائدة. تُسهمُ وسائلُ الإعلام والمنصات الثقافية في صياغة هذا الوعي الجمعيّ، مُقدّمةً غالباً منظوراً أحاديَّ الجانبِ يُعززُ مصالحَ النخب الحاكمة ويُرسّخُ رؤيتها للعالم. وعندما يُقررُ فردٌ ما أن يكسرَ هذا الطوقَ، أو يُعبّر عن رأي يُخالف الإجماعَ المفروضَ، تُظهِرُ هذه “الديمقراطياتُ” وجهَها القمعيَّ الصارمَ.
إنّ الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية تُقدّم دراسة حالة صارخة لهذه الازدواجية. فما شهدهُ الشارعُ في لوس أنجلوس خلالَ شهرِ يونيو 2025 من احتجاجات واسعة، خصوصاً تلكَ المتعلقةِ بسياسات الهجرة والتعامل مع المهاجرينَ، يُعدُّ خيرَ دليل على هشاشة حرية التعبير عندما تتعارضُ مع الخطوط الحمراء السياسية. فبعدَ مداهمات نفّذها عملاءُ إدارةِ الهجرةِ (ICE) الفيدراليةِ في مناطقَ ذاتِ كثافةٍ عاليةٍ من المهاجرينَ، واعتقالِ عشراتِ الأشخاصِ، بمن فيهم مهاجرون غيرُ شرعيينَ وقياديون نقابيون بارزون مثل ديفيد هويرتا، رئيس فرع نقابة عمال الخدمة الدولية (SEIU) في كاليفورنيا، اشتعلتْ شرارةُ الغضب في أوساط المجتمع اللاتينيّ والمكسيكيّ.
تُظهر التقارير الإعلامية والأبحاث الأكاديمية، مثل تلك التي نُشرت في “الجزيرة” و”CNN Arabic” و”NPR”، أنّ الشرطةَ واجهتْ المتظاهرينَ بعنف شديد. فقد أُعلنتْ الاحتجاجاتُ “تجمعاً غيرَ قانونيّ”، واستُخدمتْ كرات الفلفل والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريق الحشود. واعتقلت مئات الأشخاص بتهمة “عدم التفرق”، بالإضافة إلى وقوع أعمال تخريب وحرق سيارات في بعض الحالات. الأمرُ الذي يُثيرُ تساؤلات عميقة عن قرار الرئيس الأمريكيّ نشر آلاف الأفراد من الحرس الوطنيّ وقوات المارينز في لوس أنجلوس، وهو ما وصفهُ حاكمُ كاليفورنيا، غافن نيوسوم، بأنهُ “غيرُ قانونيّ” و”غيرُ أخلاقيّ”، وتهديدهُ بمقاضاة الإدارة الفيدرالية. هذه الأحداثُ، التي تُظهر تعاملاً قاسياً مع ممارسة حقٍ أساسيّ مكفول دستورياِ – حريةِ التعبيرِ والتجمعِ السلميّ – تُسلّطُ الضوء على مدى هشاشة “حريةِ التعبير” عندما تتعارضُ مع الأجندات السياسية والمصالح العليا التي تدافعُ عنها اللوبيات القوية.
فالدراسات الأكاديمية، مثل تلك التي تناولتها “Human Rights Watch” و “Scholarly Commons @ UNLV Boyd Law” تُبيّن أنَّ خطابَ الأفراد حولَ قضايا المصلحة العامة، كسياسات الهجرة، يجبُ أن يتمتعَ بأعلى درجات الحماية بموجب التعديل الأول للدستورِ الأمريكيّ. ومع ذلكَ، فإنَّ المهاجرين، خاصةً غيرَ الموثّقينَ، يواجهونَ تهديدات بالاحتجاز أو الترحيل كشكل من أشكال الانتقام على أنشطتِهم السياسية أو آرائهم المعارضة، مما يُلقي بظلال قاتمة على الادعاءات بوجود حرية تعبير مُطلقة. فاللوبياتُ في الولايات المتحدة تُمارسُ تأثيراً هائلاً على صناعةِ القرار والسياسة الخارجية، وأيضاً على الخطاب العام وحتى في الأوساط الأكاديمية. وقد شهدَ عامُ 2024 أعلى إنفاق على اللوبيات الفيدرالية، مما يؤكدُ تزايد نفوذِها في التأثيرِ على التشريعات والسياسات المتعلقة بالتقنيات، والرعاية الصحية، واللوائح الاقتصادية. هذه الجماعاتُ المُنظمةُ، ذاتُ التمويل الضخم والاتصالات الواسعة، تُشكّلُ ضغطًا هائلاً على المشرّعينَ وصانعي القرارِ، وتُسهمُ في صياغة التشريعات والسياسات التي تخدمُ مصالحَها، حتى لو كان ذلكَ على حساب حرية التعبير أو الرأي المخالف.
إنَّ هذه “الديمقراطية المحدودة” لا تقتصر على الداخل الغربيّ فحسب، بل تُصدّرُ كأداة للهيمنة والتدخل الخارجيّ. فباسم “نشرِ الديمقراطيةِ” و”حماية حقوق الإنسان”، تبرّرُ الدولُ القويةُ تدخلاتِها العسكريةَ والسياسيةَ في الدول ذات السيادة. ولنا في التاريخ الحديث أمثلةٌ عديدةٌ، وتُشيرُ التقاريرُ الحديثةُ مثل تقرير V-Dem للديمقراطية لعام 2025 إلى أنَّ مستوى الديمقراطية الليبرالية العالميّ مستمرٌ في التراجع، وأنَّ حريةَ التعبيرِ تتدهورُ في ما يقربُ من ربع دول العالم، مما يُسجّلُ رقماً قياسياً جديداً خلالَ الـ 25 عاماً الماضيةِ. كما تُشير بعض التحليلات إلى أنَّ الولايات المتحدة قد تُصبح أسرعَ دولة تتدحرجُ نحو الاستبداد في التاريخ المعاصر، دونَ الحاجة إلى انقلاب. تُظهرُ دراساتٌ من “جامعةِ ولاية إلينوي” و”معهد كاتو” أنَّ هذه المحاولات لتصدير الديمقراطية الغربية غالباً ما تلقى نجاحاً محدوداً أو نتائجَ عكسيةً، لأنها تتجاهلُ السياقاتِ الثقافيةَ والاجتماعيةَ والسياسيةَ الفريدةَ للدولِ المستهدفة. يجبُ أن نكونَ أكثرَ وعياً للتدخلاتِ الأجنبية باسم الديمقراطية، خاصةً وأننا شهدنا العديدَ من الدول العربية التي دُمّرتْ أو أُضعفتْ تحت ستار نشر الديمقراطية من قِبَل الولايات المتحدة، مخلفةً وراءَها الفوضى وعدمَ الاستقرار، بدلاً من الوعود بالحرية والازدهار.
في المقابلِ، ورغمَ التحدياتِ الكبرى التي تواجهُ دولَنا العربيةَ في مسيرتِها نحو بناء أنظمة أكثر انفتاحاً وعدالةً، فإنَّ هناكَ مساحات غيرَ رسمية للتعبير لا يُمكنُ إغفالُها. ففي مجالسِنا، ومقاهينا، وحتى عبرَ وسائل التواصل الاجتماعيّ -رغمَ وجود الرقابة في بعض الأحيان- يظلُّ هناكَ متنفسٌ للنقاش الحرّ وتبادل الآراء، قد يتجاوزُ أحياناِ ما هو مسموحٌ به ضمنَ الأطر الرسمية “المُؤطّرة” في الغرب. هذا لا يُقللُ من ضرورة السعيّ نحو ديمقراطيات حقيقية ومؤسسية لدينا، لكنه يُعيدُ تعريفَ الديمقراطية كعملية مستمرة من التحرر والوعيّ، لا كمنتج جاهز يُمكنُ تصديرُه أو استيرادُه.
إنَّ التحديَ الحقيقيَّ أمامَنا، هو إدراكُ أنَّ الديمقراطيةَ ليستْ مجردَ صناديق اقتراع أو شعارات براقة، بل هي قدرةٌ على التعبير الحقيقيّ، ومساءلة السلطة، وبناء مجتمع يرتكزُ على العدالة والكرامة الإنسانية. وهذا يتطلبُ منا تجاوزَ النماذج المستوردة التي تُثبتُ فشلَها في حماية أسمى مبادئها عندما تُهدّدُ مصالحَها. يجبُ أن نصبح أكثر وعياً لمروجي مفاهيم الديمقراطية المستوردة في بلادنا، وأن نواجهَ أنفسنا بحقيقة أنها ليستْ سوى أدوات تخدمُ أجندات خارجية. كفى تقليلاً من شأنِ أنفسِنا وقدراتِنا؛ فنحنُ نملكُ الكثيرَ من عوامل إنتاج حياتِنا والتعبير فيها، وهذا لا يتنافى مطلقاً مع التفعيلِ الحقيقيّ للديمقراطية في بلادنا في مناحي الاقتراع والتعدد الحزبيّ وغيرِه من الممارسات الأصيلة. بل إنَّ وعينا بهذه المفارقات يُسقطُ الأقنعةَ عن كلِّ ديمقراطية زائفة تُخفي وراءَها وجهَ الهيمنة والقمع، ويُمهّدُ الطريقَ لبناء ديمقراطيتِنا الخاصة، النابعة من تربتِنا وتاريخنا.