“ملحٌ كذرّ الرماد”.. أحدث إبداعات أحمد بيضون

ويتجدد اللقاء مع إبداعات أدباء ومواهب أبناء أرض الكنانة وفي هذه السطور تنشر بوابة الجمهورية والمساء أون لاين قصة الأديب الروائي أحمد فاروق بيضون الموسومة بعنوان: ملحٌ كذرّ الرماد..
🍂
ملحٌ كذرّ الرماد
اليوم عيد ميلادي والموافق احتفالية العيد المجيد، كثيرون يتمنون الانطلاق إلى هذا العالم ليستظل بأوار شمسه ويقتبس ضياء بضاً من قرص القمر وتلفحه رمضاء شواء يتسلل بخاره خلف الأسوار، يهللون ويتسامرون ويرسمون ابتسامة تشي بتلك الانفراجة والانعتاق والتحرر من أغلال الزنزان، ليس وقتاً مناسبا لتصفية الحسابات، ينظرون لبعضهم البعض ويتراصون كأسنمة تتمايل وتصدح بأصوات تتهدّج وتجفل بصخب أصدائها عبر الجدران المصمتة، المفتش يخترق الطاولة.. واحدة تلو أخرى حتى سمع زعيقا لمتجهم مفتولٍ عابسٍ يعرفه جيدا؛ على ما يبدو لديه بصاصين من ثلة ماكرة تتهافت على ضحية لا حول لها ولاقوة فتسبح في سيل من الدماء بعدما يزهقون روحها، لا غروَ بأنه مضطر لإظهار حنكة وفطنة لطريقة التعامل مع ذاك الذي يضرس أنيابه، أدلفَ مباغتاً: (أين الملح…؟) ..
سؤال في غاية الغرابة بالنسبة لهذا المشرف الذي اعتاد أن يرى مائدة الطعام لا تخلو من الملح الذي يضاف كمقبلات لوجبة مخصصة لنزلاء السجن ليصبح الطعام مستساغاً، سأراقب الحدث عن كثب بينما يفصلني عن مسرح المواجهة كرسيان.. يطمس معالمهما شخصان من غيلان المصارعة يتبعان رسائل سيدهما لتتمّة رقصة الضباع، موقعنا ناتئ عن المعمار بمئات الأميال ولا شيء في المحيط سوى أكواخ وكبائن للغجر والمطاريد، التحصينات على أعلى مستوى بتلك القفار والثكنات، هدوء يتوسد بالخارج ووطيس أتون سينفجر بالداخل وأنا أخشى ما أخشاه من انخراط الحابل بالنابل وتتقد شرارة معركة تاريخية بين الرعاع والنبلاء، بيدَ أنني أعلم بأنني مظلوم تم الزج به في قضية لمجرد أنه أضاف ملحاً من نوع آخر لجروح متقيحة في مؤسسة خربة تموج في الفساد، الكل هنا سواسية ولكن لابد من تنصيب الأكثر شراسة كضليع في التبلّس كهذا الهائج..
ماج الوحشان أمام مرأى محاجري الشاخصة يتجهان صوب صويحب مدجج ببعض النياشين وخلفه فرقة معتقة بالبارود علَّه ينفعها إن انبجست شارة البدء، صوت صكيك أقداح يفزعني وكأنها جحافل من المعالق جيشت طنينها، فجأة- انطلقت صافرة إنذار لا أعلم مصدرها، تم إشهار الصواعق وجلجلت نيران رصاصات، وأنا ألتهم وجبتي متوارياً بين مغاوير صمتي بأنين أكتمه في وشاحي، الذي ما لبث أن غاص في وديان دماء قانية، بتُّ أشعر بأني على بعد خطوة من الموت الزؤام وسأرجئ أحلامي الوردية باحتفالية يوم مولدي وقدسية شعائر تلك المناسبة حتى ولوج ديار أخرى، يالحظي العاثر!.. لكن الوصول الذي أرجأه ذاك الطاهي الغير آبه إلى ساح الاقتتال ووديان الثأر بسبب انعدام الملح.. قد وأد الفتنة وأطفأ الثائرة، لاغرو بأنه تأخر كثيرا!!..
أرتال من مُغلفات تحوي ذاك السم الأبيض ملأت القاعة حتى تناثر لونها الأبيض على تلك الأجساد المسجية المحتضرة بعضها والآخر مصاباً، أما أنا فَنجوت بأعجوبة وأعرف أن تناول الملح هذه المرة يعدّ انتحارا حتى يتجلط الدم ويندمل قطع على إثر الشظية الطائشة، لم أنبس بكلمة ولكن تناهى لأسماعي أخيلة من شتائم وألفاظ نابية وسليق تلاسن ينسغ أصحاب الهيمنة، (القصاص.. القصاص)..
غمغمات بتلك الكلمة تكاد تقتلع زفراتي وأنا مطأطئ الرأس وأكمل ما بدأت.. ليصبح فتات وكسرة وشطرة ثمَّ بقايا ذكريات لأحلام مبتورة زائفة ؛ صحيح بأن الملح أنقذَ مطعمي، لكن عجباً— شاحت نظرة مني وأنا أسمع من يناديني باسمي بين عالمَين بعدما تلاشى الغول ومناصريه وكذلك قوات منع الردّة وإعادة الانضباط كما أنعتهم، حسناً – اسمي المنادى.. ” إفراج”.. لأول مرة أدرك بأن للملح طعم مرارة آخر أشبه بتجرع الثرى الذي هيلَ على الجثامين إبّان موكبٍ جنائزي احتفاليّ، محمول على الأعناق في كفنٍ كبياض الملح الناصع الخالص، منغمس في أبهى الحُلل وأزكى رائحة لوليمة فاخرة وبمعيّة الأقربين والأصدقاء، مازلتُ أتساءل سادراً عن ذرِّ رماد يلفحني: ” هل سيختفي ملح وضيمتي هذه الكرَّة في عالم فقد حاسة التذوق—بل أضحى متعطشا لسائل لزج ينهمه دونما هوادة؟!”
📌أحمد فاروق